سورة النحل - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}
قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ} لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدى طوره. {والْإِنْسانَ} اسم للجنس.
وروى أن المراد به أبى بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم رميم فقال: أترى يحيى الله هذا بعد ما قد رم. وفى هذا أيضا نزل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور. فمعنى الكلام التعجب من الإنسان {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ}
وقوله: {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ} أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و{مُبِينٌ} أي ظاهر الخصومة.
وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.


{والأنعام خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَها لَكُمْ} لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان:
عفت ذات الأصابع فالجواء *** إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بنى الحسحاس قفر *** تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاء
فالنعم هنا الإبل خاصة.
وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث، قال الله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ}. وفى موضع {مِمَّا فِي بُطُونِها}. وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه.
الثانية: قوله تعالى: {دِفْ ءٌ} الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف.
وروى عن ابن عباس: دفؤها نسلها، والله أعلم. قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، قال الله تعالى: {لكم فيها دفء}. وفى الحديث«لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق». والدفء أيضا: السخونة،7 تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفا مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول: ما عليه دفء، لأنه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة، لأنه مصدر. وتقول: اقعد في دفء هذا الحائط أي كنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل، أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفئ على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة، لان بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفئة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم، عن الأصمعي. وأنشد الشماخ:
وكيف يضيع صاحب مدفآت *** على أثباجهن من الصقيع
قوله تعالى: {وَمَنافِعُ} قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع.
وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح.
الثانية: دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفى حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية، لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد أنشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله:
تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا *** فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذ الاسم غير فتى *** صافى فصوفي حتى سمى الصوفي


{وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)}
الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمل الرجل بالضم جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا، عن الكسائي. وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع *** بذت الخلق جميعا بالجمال
وقول أبى ذؤيب:
جمالك أيها القلب القريح ***
يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزع اقبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الافعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لاحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الافعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان، قاله السدى. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها، لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنه وضروعا، قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم.
وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة، تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8